للشهر الرابع، تستمر السلطة القائمة بالاحتلال، بارتكاب الإبادة الجماعية بحق المدنيين ومقومات استمرار الحياة بعدوانها على قطاع غزة، وبحرب لا هوادة فيها على الفلسطينيين في الضفة الغربية، مستهدفةً الوجود الفلسطيني على أرضه، وساعيةً لإفقاره، ودفعه إلى اليأس، ومنعه من بناء حياته وتحديد مستقبله، وذلك عبر تدمير مقومات الوجود، والتضييق عليه في حركة تنقل الأفراد والبضائع، وتدمير البنى التحتية.
وبالتوازي مع حرب الإبادة في غزة، خلقت سلطات الاحتلال واقعاً معقداً في المحافظات الشمالية، قتلاً وتدميراً للمخيمات، وتقطيعاً لأوصال المدن والأرياف، وإفقاراً للناس، وقرصنة للأموال، وحرماناً من الوصول لمصادر الرزق، الأمر الذي انعكس سلباً على أداء مؤسسات الدولة، والخدمات التي تقدمها للمواطنين، وطالت أثار ذلك كل القطاعات والمواطنين كافة، ومنذ أكثر من (110) أيام، لم ينتظم العمل في المحاكم النظامية، نتيجة للظروف القاهرة.
ومع توالي فصول العدوان، وتعدد أشكاله، وتعمد الاحتلال إطالة أمده، أصبح لزاماً على الجميع، البحث دون إبطاء عن أساليب للتحدي، وخدمة المواطنين حيثما أمكن ذلك، ومراعاة أي ظرف قاهر في هذه المحافظة أو تلك.
ولما تمثله السلطة القضائية كسلطة ثالثة من سلطات الدولة، ولما رسمته من رؤيا واضحة، وخطته لنفسها من عمل دؤوب، ورغم كل المعوقات التي لم تساعدها على الوصول الى تحقيق استراتيجيتها المرسومة، فإن التحديات التي رافقت هجمة الاحتلال، وحربه العدوانية على الشعب الفلسطيني، كان لها الأثر الكبير على انتظام إجراءات التقاضي في المحاكم الفلسطينية.
إن استمرار ببناء مؤسسات الدولة واجب وطني وأخلاقي، وإن المحافظة على هذه المؤسسات يشكل أحد طرق مواجهة الاحتلال، وتعزيز صمود شعبنا.
انطلاقاً من هذا الأمر، فقد رأى مجلس القضاء الأعلى استمرار مرافق القضاء بتقديم خدماتها لجمهور المتقاضيين، وللمواطنين، وذلك بانتظام العمل في المحاكم النظامية ما أمكن ذلك، مع تقدير الظروف العامة والخاصة، ودون المجازفة بأمن أي قاضٍ أو موظف وسلامته الشخصية، ومراعاة صعوبة التنقل، والأزمة الناتجة عن قرصنة الأموال الفلسطينية.
ويمثل الواقع الحالي، تحدياً للسلطة القضائية التي تتميز بتقديم الخدمات للجمهور، وتحافظ على الحقوق، وتصون الحريات العامة، وتؤمن السلم الأهلي للمجتمع، كما أن استمرار عمل المحاكم يمثل ضرورة ملحة ومصلحة للناس، وفيه واجب وطني وأخلاقي، وذلك للأسباب التالية:
1) الخدمات العدلية، بما في ذلك التقاضي، وفض النزاعات بين الناس، من الخدمات الحيوية التي تقدمها المحاكم، وهي من الخدمات التي لا يمكن أن يستقر مجتمع إذا ما تعطلت لفترة طويلة، وفي المحافظات الشمالية ورغم قسوة الحال، والاعتداءات المستمرة من السلطة القائمة بالاحتلال، فإن الخدمات الحيوية كالصحة والتعليم وسواهما من الخدمات العامة لا يمكن أن تتوقف في كل الظروف، وما من مبرر لاستمرار تعطيل المحاكم بشكل شبه تام.
2) إننا نعيش في حالة مزمنة من اللايقين، بحيث لا يمكننا التنبؤ بما هو قادم، وقد يكون المستقبل القريب أكثر صعوبة من أيامنا هذه، الأمر الذي يحفزنا جميعاً على استثمار كل لحظة يمكن فيها الاستمرار بتقديم الخدمات للمواطنين، لتعزيز مناعة المجتمع أمام اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه.
3) إن الاستمرار بالتعطيل التام لجلسات التقاضي في القضايا الجزائية لعدة أشهر فيه انتهاك لحقوق الإنسان، ولقرينة البراءة، وذلك بالنسبة للأشخاص المحتجزة حريتهم، كما أن إطالة أمد التقاضي في القضايا المدنية يحول دون تحقيق العدالة الناجزة للخصوم، فالعدالة المتأخرة إنكار للعدالة.
4) السادة القضاة، وهم يعيشون ذات الهم الذي يعيشه أبناء الشعب الفلسطيني، لم يسبق لهم إلا أن راعوا عند نظرهم الدعاوى حالة التنقل بين المدن والمحافظات، وحالات إغلاق المدن، وصعوبة وصولهم ووصول المحامين والمواطنين والمتقاضين إلى دور المحاكم.
وبناءً على ما تقدم، اتوجه بإسمي وباسم زملائي في مجلس القضاء الأعلى إلى مجلس نقابة المحامين، آملاً اتخاذ قرار بالعودة عن قرار تعليق العمل المفتوح أمام المحاكم، والتوجه إلى الانتظام بحضور جلسات المحاكم لخدمة العدالة، وليس في هكذا قرار مصلحة عامة فحسب، إنما يصب ذلك في مصلحة الأساتذة المحامين وموكليهم.